"الجَبَنة" السوداني.. ملجأ هاجر وبناتها للتعافي من الحرب وافتقاد زوجها

تصوير: مريم أشرف

كتب/ت مريم أشرف
2023-09-21 00:00:00

على رائحة البخور السوداني الشهير الذي يمكن أن تميزه على بعد أمتار، تبدأ هاجر الكباشي في تجهيز جلسة "الجبنَة" -القهوة - التي تحتوي على قهوة توضع في إناء فخاري من التراث السوداني، ويُضاف لها بُخور ومكسرات وفاكهة، ثم تصحبنا إلى جلسة تُذكرها بوطنها الذي فرّت منه مضطرة، وتعيد إحياء تراثها في وطنها الجديد.

"حبيبي وهوايا أنا.. عازماهو والليلة جبنَة" تغني إحدى بناتها 14 عام، تحمل في عقلها وذاكرتها منذ الطفولة جلسات الجبنَة فهي سبب البهجة والسعادة في منزلها السابق في السودان.

منذ شهرين وصلت هاجر إلى منطقة حدائق المعادي بالقاهرة، حاولت مع زوجها في أن يصل إلى مصر؛ لكنه مازال يسدد ديون وصول أسرته إلى مصر، ولا يملك المال ولا العمل بعد قصف العاصمة الخرطوم بالكامل، وهو الآن يجلس مع والدته في إحدى المدن الأخرى ويحاول جمع المال.

كانت رحلة الأسرة قاسية، تعرضت فيها لعدة تحديات بداية من توفير المقابل المادي المطلوب لانتقال الأم وفتياتها الخمس، ومرورًا بالحصول على الأوراق المطلوبة، ناهيك عن الانتقالات نفسها في ظل حرب متبادلة لا تتوقف على رؤوس المدنيين.

 ومنذ فقدت الأمل في عودة زوجها وإلحاح بناتها على رؤية والدهم وهي تصنع جلسات الجبنَة وحدها، حتى إن لم يشاركها أحد الجيران أو الأصدقاء؛ فهي تحاول فقط خلق إحساس بأنها لازالت في وطنها، وتلاحق طيف زوجها الذي يمثل لها الأمان والحب فهي تحتاجه الآن أكثر من أي وقت مضى.

تبدأ طقوس صناعة القهوة بتحميص حبات البُن الإثيوبي على النار؛ فهذا النوع هو سر القهوة السوداني، ثم تقوم بطحنه مع الحبهان.

تترك الماء يغلي، ثم تغني بلهجتها "بقلي البن بمحبة.. وبنضجو حبة حبة"، بعد غليان الماء تضع البن عليها ثم تتركها حتى تغلي وتفوح رائحة القهوة مع رائحة البخور، لتعطي مزيج رائحة سودانية يسمى "رائحة البيوت السوداني" التي تسكن المنازل الطيبة. 

مع وضع الجبنَة في الإناء تتذكر هاجر زوجها الغائب مؤقتًا، اعتادت مشاركته جلسة الجبنَة في يوم إجازته الأسبوعية، تتذكر معه قصة حبهما وأحلامهما في مستقبل أفضل لأولادهما؛ وهي الآن أصبحت وحدها من تحلم بعدما فرّقتها الحرب عن زوجها ووطنها، فيما لم يساعدها المال في سفر الزوج معها إلى مصر.

تقوم بصب القهوة في الفناجين ببهجة، لصُنع الجبنَة وضع خاص في المجتمع السوداني من خلال جلسات عائلية تتم بشكل أسبوعي، فلكل أسرة اختيار حسب جدول زمني لكل أفراد الأسرة. 

توقف الجلسة وتدق هاجر الباب على جارتها التي جاءت بالقهوة والبخور، تعرفت إليها خلال جلسة من الحديث النسائي والأغاني السودانية.

جلسة الجبنَة تمثل لأماني محمد جارة هاجر علاجًا نفسيًا، وذلك في ظل ضغط أعمال المنزل وتربية الأبناء، تقول: “الحرب السودانية آتت لها بمنقذ من ضغوط الحياة.. جلسة الجبنَة الممزوجة بقهوة ورائحة طيبة". 

مع آخر رشفة من فنجان الجبنَة يرن الهاتف، على الطرف الثاني زوجها يتصل للاطمئنان عليها.

تقول بلُطف له: “كنت في جلسة جبنَة جميلة تذكرني بك"، يشجعها زوجها على المشاركة، يسألها عن أحوالها والبنات، ينتهي الاتصال، فيما تظل هي على أمل اتصال ثاني يخبرها فيه زوجها أنه في الطريق إليهن. 

 

تصوير: مريم أشرف -